
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،
أما بعد :
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال
:قال صلى الله عليه وسلم :( ارحموا ترحموا ، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول ، ويل للمصرين الذين يصرون على
ما فعلوا وهم يعلمون)[1].
الشاهد من الحديث " ويل
لأقماع القول " و ما بعده [2]،
من هم أقماع القول ؟
قال المناوي ( ويل لأقماع القول ) أي
شدة هلكة لمن لا يعي أوامر الشرع ولم يتأدب بآدابه ، والأقماع بفتح الهمزة جمع
قِمع بكسر القاف وفتح الميم وتسكن ، الإناء الذي يجعل في رأس الظرف ليملأ
بالمائع ، شبه ذاستماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به
بالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها ، فكأنه يمر عليها مجتازاً كما يمر
الشراب في القمع ،[3]....
المشكلة التي تطرح أين الخلل ؟
قال
ابن رجب : وفي المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما
فعلوا وهم يعلمون وفسر أقماع القول بمن كانت أذناه كالقمع لما سمع من الحكمة
والموعظة الحسنة فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج في الأخرى ولم ينتفع بشيء مما
سمع [4].
نعم إنها الحقيقة قست القلوب وجفت العيون وتنافرت النفوس
وتكاسلت عن الطاعات و لم تعد تتأثر بآيات الله
والمواعظ فآذاننا تسمع آيات الوعد
والوعيد فلا يتأثر القلب ولا يخشع ولا
يخبت مع أن الله تعالى يقول : ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾[ق:45]
نحن
نرى ونسمع الزلازل والكوارث ولا نبالي آثارنا الدنيا على الآخرة فأصبحت الدنيا
همنا وشغلنا الشاغل، وضَعُفَ تعظيم الله جل جلاله.
وما السبب ؟
لأن آذاننا أصبحت كما في التعبير النبوي أقماع ، نعم لنقف وقفة أخي المسلم وقفة و لننتبه ولنحذر
فكلمة ويل كلمة وعيد وتهديد " ويل لأقماع القول " .
ويل لأقماع القول:
قوله صلى الله عليه وسلم ( ويل
لأقماع القول ) أي الذين لا يعون أوامر الشرع ولا يتأدبون بآدابه ، قال جل
ذكره ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا
أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولْـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179] .
لماذا لا يسمعون؟ هل لأنهم ليست لديهم آذان؟ كلا إن لهم
آذانًا ولكن لا يسمعون بها الحق﴿ أُوْلَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف:179]
.
لماذا شبه الله الكفرة بالأنعام؟ ولماذا وصفهم بأنهم أضل
من الأنعام؟ لأن بعض الناس عندما يسمع كلام الله، وعندما يسمع الحق فإنه لا يأنس
به، ولا ينقاد له، وإنما يعرض عنه إعراضًا شديدًا، قال السعدي في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف:179]: أي سماعًا يصل معناه إلى قلوبهم.
والمقصود أنَّ
الاستماع والإنصات من أول وسائل التحصيل بل هو أصلها كما قال ابن القيم - رحمه
الله- : «فلما كان القلب وعاء والأذن مدخل ذلك الوعاء وبابه كان حصول
العلم موقوفا على حسن الاستماع».[5]
أخي المسلم إن آذان كثير من الناس اليوم انشغلت
بالمحرمات عن سماع الحق وأهل الحق، فابتعدت عن
الطريق المستقيم .
ويل
آخر لأقماع القول :
كرر
النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على
أقماع القول ( ويل للمصرين ) على الذنوب أي
العازمين على المداومة عليها ( الذين يصرون على ما فعلوا ) يقيمون عليها فلم
يتوبوا ولم يستغفروا ( وهم يعلمون) حال أي يصرون في حال علمهم بأن ما فعلوه معصية ،
أو يعلمون بأن الإصرار أعظم من الذنب أو يعلمون بأنه يعاقب على الذنب [6]
.
نعم
فإذا كانت الأسماع كالأقماع فالقلوب بلا شك لا تعي ولا تتعظ فتبتعد عن الله وتصر على المعصية فتهلك والعياذ بالله .
فيا أخي المسلم احذر
من أقماع القول بعد رمضان :
رمضان
شهر التوبة والإنابة كم من موعظة من كلام الله تعالى سمعناها و هو القائل سبحانه :
﴿يأيها
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[يونس:57] . أي: تعظكم،
وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها
ومفاسدها.[7]
وهو القائل سبحانه ﴿اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:23] .
فهل
اتعظنا في رمضان هل لانت قلوبنا ؟ هل خشعت ؟ كم دمعت عيوننا من خشية الله ؟ هل
تغيرت نفوسنا ؟
قرأت
شرح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم و هو يستدل به في شرحة لحديث " اتق
الله حيث ما كنت " فاندهشت و رهبت وقد بين علة كبيرة أصابت المسلمين إنها
" أقماع القول "
فانتبه
لقوله صلى الله عليه وسلم" ويل لأقماع القول ":إنه أمر خطير لا بد أن
نقف عنده لما فيه من العبر والعظات ما يردع
النفوس وينبهها عن غيها لتنتبه و تنيب فإنه ترهيب من اللامبالاة والغفلة التي كست أكثر الناس حتى من تظهر عليه آثار
الاستقامة ! هذا كتاب الله تُلِيَ بأصوات ندية ، وسمعنا المواعظ تلو المواعظ فأين
قلوبنا في رمضان وبعد رمضان ؟
ها نحن وَدّعْنا
رمضان المبارك ... ونهاره الجميل ولياليه العطرة فماذا جنينا من ثماره اليانعة ،
وظلاله الوارفة ؟ هل تحققنا بالتقوى ... وتخرجنا من مدرسه رمضان بشهادة المتقين
الموحدين الصادقين ؟
هل تعلمنا فيه الصبر
والمصابرة على الطاعة ، وعن المعصية ؟ هل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها؟
هل غيرنا العادات
والتقاليد السيئة ؟
أسئلة كثيرة ..
وخواطر عديدة .. تتداعى على قلب كل مُسلم صادق .. يسأل نفسه ويجيبها بصدق
وصراحة .. ماذا استفدت من رمضان ؟
رمضان موسم
أخروي إنه محطة روحيه للتزود منه لبقية
العام ولشحذ الهمم بقيه العمر .
فمتى
يتعظ ويعتبر ويستفيد ويتغير ويُغير من حياته من لم يفعل ذلك في رمضان ؟!
فيا
تُرى ما الفائدة إذًا من عبادة شهر كامل إن أتبعتَها بعودة إلى سلوك الكسل و
اللامبالاة والمعاصي؟!
رمضان بحق مدرسة للتغيير .. نُغير فيه من أعمالنا
وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله جل وعلا ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...
﴾ [الرعد :11].
وبعد
خروج شهر الصيام وما حصل للمسلم فيه من الأنس في العبادة والحرص عليها، فإن من حسن
حظه أن يداوم بعد ذلك على التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة؛ لأن المعبود في رمضان
هو المعبود في شوال وفي كل زمان.[8]
واسمع
بارك الله فيك لقوله تعالى : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66)
وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَ لَهَدَيْنَاهُمْ
صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ [النساء : 66-67]
فالمؤمن
يسمع ويعي وليست أذناه قمع تستقبل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى ،
وانتبه أخي المسلم للإمام العلامة السعدي
يبن وهو يفسر الآية ما يحصله الذي يتعظ
ويفعل ما أمره الله به ،رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة
أمور:
§ (أحدها) الخيرية في قوله: { لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ } أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير.
§
(الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته.
§ (الثالث) قوله: { وَإِذًا
لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } أي: في العاجل والآجل الذي يكون
للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر.
§ (الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم.
...، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير.[9]
فتأمل
بارك الله فيك : سمعوا سماعًا وصل إلى قلوبهم فربحوا وفازوا .
أخي المسلم نحن الآنَ - بحمد اللهِ -
ختمْنا شهر الصيامِ والقيام والدعاء، والسؤال الذي يجب التوقفَ عنده: هل قبل منا
ذلك؟ إن التاجر إذا دخل موسمًا أو صفقة تجاريةً، فإنَّه بعد انتهاء الموسم والصفقة
يصفِّي حساباته ومعاملاته، ويقلِّب كَفيه وينظر مبلغ ربحه وخسارته، ينظر هل رَبِحَ
أم خسر؟ هل غنِم أم غَرِم؟ هذا الاهتمام البالغُ نراه في تجارةِ الدُّنيا
وعَرَضهَا الزائل.
و
هذا رمضان موسم أخروي فهلاَّ حاسبْنا أنفسنا، ووقفْنا معهَا: ماذا ربحنَا فيه؟
ماذا استفدْنا منه؟ ما أثرُهُ على نفوسِنا؟ ما تأثيرُه على سلوكياتِنِا؟ هلْ
تُقبِّلَ منَّا؟ أمْ هلْ رُدَّ علينا؟
اتّق
الله يا عبد الله! ، وداوم على صالح العمل حتّى يحضرك الأجل
قال
تعالى : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99]. فالواجب
علينا ان نسمع و نرسخ مواعظ رمضان في
قلوبنا ونحركها بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
حتى لا يضيع منا ما جنيناه من رمضان شهر الصيام والقيام؟
اللهمَّ إنّا خلْقٌ من خلْقك
وعبادٌ من عبادك لا غنى لنا عنك طرفةَ عينٍ اللهمّ فلا تكلنا إلا إليك ، اللهمَّ
أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تُؤثِر علينا وثبتنا على الصراط
المستقيم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا الكريم.
[1] ـ السلسلة الصحيحة للألباني رقم 482
[2] ـ وستكون رسالة أشرح فيها الحديث من أوله .
[3] ـ ـ فيض القدير للمناوي 2/745
[4] ـ جامع العلوم والحكم ص 207ـ
208
[5] ـ مفتاح دار السعادة (1/64)
[6] ـ فيض القدير للمناوي 2/745
[7] ـ تفسير السعدي
[8] ـ شهر رمضان موسم أخروي، فليغتنمه المسلمون للشيخ عبد المحسن العباد
[9] ـ تفسير السعدي باختصار