الكلمة الشهرية
شهر الله المحرم شهر جديد وسنة جديدة
فما هو السبيل إلى إصلاح حال المسلمينوما هو الطريق الذي يتخذونه حتى يمكن الله لهم ؟
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل
عمران:102) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً}(النساء:1) {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:70-71) .
وبعد :
اتقوا
الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليال فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى
تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة فطوبى
لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان طوبى
لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله
فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] إخواني: ألم تروا إلى هذه
الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوعها ثم
غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال.
ألم تروا
إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو
الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا
يا أولي الأبصار.
ألم تروا
إلى هذه الأعوام تتجدد عاما بعد عام فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر
البعيد ثم تمر به الأيام سراعا فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا
عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] ربما يؤمل الإنسان
بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم.
أيها
الناس: إنكم في هذه الأيام تودعون عاما ماضيا شهيدا وتستقبلون عاما مقبلا جديدا فليت
شعري ماذا أودعتم في العام الماضي وماذا تستقبلون به العام الجديد فليحاسب العاقل نفسه
ولينظر في أمره فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات
وإن كان ظالما لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات وإن
كان ممن من الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
إخواني:
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلي إنما الإيمان
ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عما
كان عليه من الذنوب وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبة علام الغيوب فحققوا أيها
المسلمون الإيمان والتوبة فإنكم في زمن الإمكان.
وعظ النبي
-صلى الله عليه وسلم- رجلا فقال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك
وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» ففي الشباب قوة وعزيمة فإذا هرم الإنسان
وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه
وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب
العيش لنفسه والعيال وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه
أوقات الإمكان.
عباد
الله: اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود
منكم زائل فقيد فابتدروا الأعمال قبل الزوال.
أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ
شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ - إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُوا يَكْفُرُونَ - هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ
مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ
إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - إِنَّ فِي اخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 3 - 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.[1]
و السؤال المطروح مع تقلبات الأمور والأحوال ما هو السبيل
إلى النهوض بالمسلمين و إصلاح حالهم وما
هو الطريق الذي يتخذونه حتى يمكن الله لهم ويضعهم في المكان اللائق بهم بين الأمم
؟
إنه التوحيد
أولاً يا دعاة الإسلام .
واقع الأمة
الديني واقع مرير من حيث الجهل بالعقيدة ، ومسائل الاعتقاد ، ومن حيث الافتراق في
المناهج وإهمال نشر الدعوة الإسلامية في أكثر بقاع الأرض طبقاً للعقيدة الأولى
والمنهج الأول الذي صلحت به الأمة ، وهذا الواقع الأليم لا شك بأنه قد ولد غيرة
عند المخلصين ورغبة في تغييره وإصلاح الخلل .
فماهي الطرق النافعة الناجعة في معالجة هذا الواقع ؟
وكيف تبرأ ذمة المسلم عند الله عز وجل يوم القيامة ؟
الجواب :
يجب العناية والاهتمام بالتوحيد أولاً كما هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام
العلاج هو ذاك
العلاج ،والدواء هو ذاك الدواء ، فبمثل ما عالج النبي صلى الله عليه وسلم تلك
الجاهلية الأولى ، فعلى الدعاة الإسلاميين اليوم – جميعهم – أن يعالجوا سوء الفهم
لمعنى " لا إله إلا الله " ، ويعالجوا واقعهم الأليم بذاك العلاج
والدواء نفسه في العقيدة والعبادة والسلوك
ومعنى هذا واضح
جداً ؛ إذا تدبرنا قول الله عز وجل { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) .
أهم شيء ينبغي
على الدعاة إلى " الإسلام الحق" الاهتمام به دائماً هو الدعوة إلى
التوحيد وهو معنى قوله – تبارك وتعالى- :{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ }(محمد: من الآية19) .
هكذا كانت سنة
النبي صلى الله عليه وسلم عملاً وتعليماً .
وجوب الاهتمام بالعقيدة
لا يعنى إهمال باقي الشرع من عبادات وسلوك ومعاملات وأخلاق :
بيان عدم وضوح
العقيدة الصحيحة ولوازمها في أذهان الكثيرين
الدعوة إلى
العقيدة الصحيحة تحتاج إلى بذل جهد عظيم ومستمر
أساس التغيير هو
منهج التصفية والتربية :
من يشتغل بالعمل
السياسي ؟ ومتى ؟
إن الواجب على
كل مسلم أن يطبق حكم الله في شئون حياته كلها فيما يستطيعه .
كل هذه
التساؤلات والطروحات المهمة جوابها في هذا المقال الشهري معتمدين في الجزء الأكبر على
كلام العلامة الألباني رحمه الله .
لما كانت
العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام وأساس الملة رأيت أن تكون هي موضوع الكلمة
الشهرية[2]
ومعلوم بالأدلة
الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة
صحيحة فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال كما قال
تعالى : } ومن يكفُر بالإيمــــان
فقد حبط عملهُ وهو في الآخرة من الخاسرين {
[المائدة :5]
وقال تعالى : }
ولقد أٌوحى إليــك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك {
[الزمر :65] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وقد دل كتاب
الله المبين وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم على أن العقيدة
الصحيحة تتلخص في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره
وشره فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة
الصحيحة التى نزل بها كتاب الله العزيز ، وبعث الله بها رسوله محمداً - صلى الله
عليه وسلم[3]
والسير على هذا الطريق و الوصول إلى بر الأمان
والسلامة في الدنيا والآخرة يكون عن طريق العلم " والعلم النافع ما عرَّف
العبدَ بربه ، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده وأنس به واستحى من قربه وعَبَده كأنه
يراه .
فأصل العلم بالله الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب
منه والأنس به والشوق إليه ، ثم يتلوه العلم بأحكام الله ، وما يحبه ويرضاه من
العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد ، فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه نافعاً ،
وحصل له العلم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع ، ومن فاته
هذا العلم النافع ، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم ،
وصار علمه وبالاً وحجة عليه ، فلم ينتفع به ؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه ، ولم تشبع
نفسه من الدنيا ، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً ولم يُسمع دعاؤه ؛ لعدم امتثاله
لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه ، هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع
به ، وهو المتلقي عن الكتاب والسنة ، فإن كان متلقي عن غير ذلك ؛ فهو غير نافع في
نفسه ، ولا يمكن الانتفاع به ، بل ضره أكثر من نفعه.
وإليك هذا الكلام الجميل النافع تأمله و تدبر
مقاصده الكبرى فإنها والله منهج حياة الصالحين السعداء
يقول بن رجب : والعلم النافع يدل على أمرين :
على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة ، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه.
المعرفة بما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال.
فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة
الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه ، فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا ؛ فهو علم
نافع ، فمتى كان العلم نافعاً ، ووقر في القلب ؛ فقد خشع القلب لله ، وانكسر له
وذل هيبة وإجلالاً وخشية ومحبة وتعظيماً ، ومتى خشع القلب لله وذل وانكسر له ؛
قنعت النفس بيسير الحال من الدنيا ، وشبعت به ، فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في
الدنيا ، وكل ما هو فان لا يبقى ، من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ
صاحبه عند الله من نعيم الآخرة وإن كان كريماً على الله.
ولما كان العلم للعمل قريناً وشافعاً ، وشرَفه
لشرف معلومه تابعاً ؛ كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد ، وأنفعُها علم
أحكام أفعال العبيد"[4].
ملاك السعادة والنجاة والفوز بتحقيق التوحيدَيْن
اللذَيْن عليهما مدار كتاب اللّه تعالى ، وبتحقيقهما بعث اللهّ سبحانه وتعالى
رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإليهما دعت الرسلُ صلوات اللّه وسلامه عليهم من
أوّلهم إلى آخرهم.
أحدهما: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي ،
المتضمن إثبات صفات الكمال للّه تعالى ، وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل ،
وتنزيهه عن صفات النقص.[5]
والتوحيد الثاني: عبادته وحده لا شريِك له
وتجرِيد محبته والإخلاصِ له ، وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضى به رباً وإلهاً
وولياً وأن لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء.[6]
وقد جمع سبحانه وتعالى هذينِ النوعين من التوحيد
في سورتَي الِإخلاص وهما سورة: " قُلْ يَاْ أُيُّهَا الْكَاْفِرُون
" .... المتضمنة للتوحيد العملي
الإرادي ، وسورة: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أحدٌ " .... المتضمنة للتوحيد
العلمي الخبري.
فسورة " قل هو اللهّ أحد " فيها بيان
ما يجب للّه تعالى من صفات الكمال وبيان ما يجب تنزيهه من النقائص والأمثال ،
وسورة " قل يا أيها الكافرون " فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له،
والتبرىء من عبادة كل ما سواه.
ولا يتمّ أحد التوحيدَيْن إلا بالآخر، ولهذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سُنَّةِ الفجر والمغرب والوتر.
اللتَيْنِ هما فاتحة العمل وخاتمته ليكون مبدأ النهار توحيداً وخاتمته توحيداً.
فالتوحيد العلمي الخبري (الربوبية والأسماء
والصفات) له ضدّان:
التعطيل والتشبيه والتمثيل، فَمَنْ نَفَى صفاتِ
الرَبِ عَز وجَل وَعَطَّلهَا كذَّبَ تعْطِيْلهُ توْحِيدَهُ ، ومن شَبَّهَهُ بخلقه
وَمَثلهُ بِهِم كَذَّبَ تَشْبِيْهُهُ وتَمْثِيْلُهُ تَوْحِيْدَهُ.
والتوحيد الإرادي العملي ( توحيد الإلهية) له
ضدّان:
الإعراض عن محبته والإنابة إليه والتوكل عليه ،
والإشراك به في ذلك ، واتخاذ أوليائه شفعاء من دونه , وقد جمع سبحانه وتعالى بين
التوحيدين في غير موضع من القرآن.
فمنها: قوله تعالى: " يا أيُّها النّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلَقكُم والّذينَ مِنْ قَبلِكُم لعَلّكُم تَتَقُونَ،
الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً والسَّماءَ بِنَاءً وأنْزَلَ مِنَ السماءِ
ماءً فأخْرَجَ بهِ منَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أنْداداً وأنْتُمْ تَعْلَمُون " [سورة البقرة آية 21 – 22].
ومنها: قوله تعالى: " اللَّهُ الّذي جَعَل
لَكُم الليْلَ لتَسْكُنُوا فيهِ والنهارَ مُبْصراً، إن اللَّهَ لذُو فَضْلٍ على
النّاس ولكنّ أكثرَ النّاس لا يشْكرون، ذلكم اللّهُ ربُّكُم خالقُ كلّ شيء لا إلَه
إلاَّ هُو فأنّى تُؤفكُون، كذلكَ يُؤفك الّذينَ كَانُوا بآياتِ اللَّهِ يجحَدُونَ،
اللَهُ الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قراراً والسّماء بِنَاءً وصوركُم فأحْسَنَ
صُوَركُم ورَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبات ذلكُمُ اللَّهَ ربُّكُمْ فَتَباركَ اللَّهُ
ربُّ العالمين، هُو الحيُّ لا إلَه إلاَّ هُو فادْعُوه مُخْلصِينَ لهُ الدَينَ،
الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمين " [سورة غافر آية 61 – 65].
ومنها: قوله تعالى: " اللَّهُ الّذي خَلَقَ
السّمواتِ والأرْضَ ومَا بيْنَهُما في ستّةِ أيامٍ ثمّ اسْتوى على العَرْش مَا
لَكُم مِنْ دونهِ منْ وليّ ولاَ شَفيعٍ أفلاَ تَتَذَكّرون ، يُدَبِّر الأمْرَ مِنَ
السّماء إلى الأرض ثم يَعْرُجُ إليهِ في يومٍ كانَ مقْداره ألفَ سَنَةٍ ممّا
تعُدُّون ، ذلكَ عالِمُ الغَيْبِ والشّهادةِ العَزيز الرّحيمُ " [سورة السجدة
آية 4 – 6].[7]
فهذا يدل دلالة قاطعة على أن أهم شيء ينبغي على
الدعاة إلى " الإسلام الحق" الاهتمام به دائماً هو الدعوة إلى التوحيد
وهو معنى قوله – تبارك وتعالى- :{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }(محمد: من الآية19) .
هكذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم عملاً
وتعليماً .
أما فعله : فلا يحتاج إلى بحث ، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم في العهد المكي إنما كان فعله ودعوته محصورة في الغالب في دعوة
قومه إلى عبادة الله لا شريك له .
أما تعليماً : ففي حديث أنس بن مالك – رضي الله
عنه – الوارد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى
اليمن قال له : " ليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن
هم أطاعوك لذلك ....." .إلخ الحديث .وهو معلوم ومشهور إن شاء الله تعالى .
إذاً ، قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
أن يبدؤوا بما بدأ به وهو الدعوة إلى التوحيد ، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً جداً
بين أولئك العرب المشركين – من حيث إنهم كانوا يفهمون ما يقال لهم بلغتهم - ، وبين
أغلب العرب المسلمين اليوم الذين ليسوا بحاجة أن يدعوا إلى أن يقولوا : لا إله إلا
الله ؛ لأنهم قائلون بها على اختلاف مذاهبهم وطرائقهم وعقائدهم ، فكلهم يقولون :
لا إله إلا الله ، لكنهم في الواقع بحاجة أن يفهموا – أكثر – معنى هذه الكلمة
الطيبة ، وهذا الفرق فرق جوهري – جداً – بين العرب الأولين الذين كانوا إذا دعاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : لا إله إلا الله يستكبرون ، كما هو مبين
في صريح القرآن العظيم لماذا يستكبرون ؟ ؛
لأنهم يفهمون أن معنى هذه الكلمة أن لا يتخذوا مع الله أنداداً وألا يعبدوا إلا
الله ، وهم كانوا يعبدون غيره ، فهم ينادون غير الله ويستغيثون بغير الله ؛ فضلاً
عن النذر لغير الله ، والتوسل بغير الله ، والذبح لغيره والتحاكم لسواه ....إلخ.
هذه الوسائل الشركية الوثنية المعروفة التي كانوا
يفعلونها ، ومع ذلك كانوا يعلمون أن من لوازم هذه الكلمة الطيبة – لا إله إلا الله
– من حيث اللغة العربية أن يتبرؤوا من كل هذه الأمور ؛ لمنافاتها لمعنى " لا
إله إلا الله ".[8]
هذا جزء من كلام العلامة محدث الشام محمد ناصر
الدين الألباني رحمه الله تعالى التوحيد أولاً يا دعــاة الإسلام ولم أجد سوى أن
أعود إلى أوله وأنقله كاملا لما فيه من الكلام النفيس الذي قد لا تجده في غيره
خاصة وأنه معاصر لنا يعلم جيد داء المسلمين و دوائهم ؟! ولما لهذه الإجابة من
أهمية ، رأيت نشرها في الكلمة الشهرية فأسال
الله تعالى أن ينفع بها وأن يهدي المسلمين إلى ما يحب ويرضى إنه جواد كريم .
ما هو السبيل إلى النهوض بالمسلمين وما هو الطريق الذي يتخذونه حتى يمكن الله لهم ويضعهم في المكان اللائق بهم بين الأمم ؟
فأجاب العلامة الألباني نفع الله به على هذا السؤال إجابة مفصلة واضحة .
التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام
سؤال :
فضيلة الشيخ لا شك أنكم تعلمون بأن واقع الأمة الديني واقع مرير من حيث الجهل بالعقيدة ، ومسائل الاعتقاد ، ومن حيث الافتراق في المناهج وإهمال نشر الدعوة الإسلامية في أكثر بقاع الأرض طبقاً للعقيدة الأولى والمنهج الأول الذي صلحت به الأمة ، وهذا الواقع الأليم لا شك بأنه قد ولد غيرة عند المخلصين ورغبة في تغييره وإصلاح الخلل ، إلا أنهم اختلفوا في طريقتهم في إصلاح هذا الواقع ؛ لاختلاف مشاربهم العقدية والمنهجية – كما تعلم ذلك فضيلتكم – من خلال تعدد الحركات والجماعات الإسلامية الحزبية والتي ادعت إصلاح الأمة الإسلامية عشرات السنين ، ومع ذلك لم يكتب لها النجاح والفلاح ، بل تسببت تلك الحركات للأمة في إحداث الفتن ونزول النكبات والمصائب العظيمة ، بسبب مناهجها وعقائدها المخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ؛ مما ترك الأثر الكبير في الحيرة عند المسلمين – وخصوصاً الشباب منهم – في كيفية معالجة هذا الواقع ، وقد يشعر الداعية المسلم المتمسك بمنهاج النبوة المتبع لسبيل المؤمنين ، المتمثل في فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان من علماء الإسلام ؛ قد يشعر بأنه حمل أمانة عظيمة تجاه هذا الواقع وإصلاحه أو المشاركة في علاجه .
فما هي نصيحتكم لأتباع
تلك الحركات أو الجماعات ؟
وما هي الطرق النافعة
الناجعة في معالجة هذا الواقع ؟
وكيف تبرأ ذمة المسلم
عند الله عز وجل يوم القيامة ؟
الجواب:
يجب العناية والاهتمام
بالتوحيد أولاً كما هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام :
بالإضافة لما ورد في
السؤال – السابق ذكره آنفاً – من سوء واقع المسلمين ، نقول :إن هذا الواقع الأليم
ليس شراً مما كان عليه واقع العرب في الجاهلية حينما بعث إليهم نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم ؛لوجود الرسالة بيننا ، وكمالها ، ووجود الطائفة الظاهرة على الحق
، والتي تهدي به ، وتدعو الناس للإسلام الصحيح :عقيدة ، وعبادة ، وسلوكاً ،
ومنهجاً ، ولا شك بأن واقع أولئك العرب في عصر الجاهلية مماثل لما عليه كثير من
طوائف المسلمين اليوم !.
بناء على ذلك نقول :
العلاج هو ذاك العلاج ،والدواء هو ذاك الدواء ، فبمثل ما عالج النبي صلى الله عليه
وسلم تلك الجاهلية الأولى ، فعلى الدعاة الإسلاميين اليوم – جميعهم – أن يعالجوا
سوء الفهم لمعنى " لا إله إلا الله " ، ويعالجوا واقعهم الأليم بذاك
العلاج والدواء نفسه . ومعنى هذا واضح جداً ؛ إذا تدبرنا قول الله عز وجل { لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) .
فرسولنا صلى الله عليه
وسلم هو الأسوة الحسنة في معالجة مشاكل المسلمين في عالمنا المعاصر وفي كل وقت
وحين ، ويقتضي ذلك منا أن نبدأ بما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو إصلاح ما
فسد من عقائد المسلمين أولاً ، ومن عبادتهم ثانياً ، ومن سلوكهم ثالثاً .ولست أعني
من هذا الترتيب فصل الأمر الأول بدءاً بالأهم ثم المهم ، ثم ما دونه ! وإنما أريد
أن يهتم بذلك المسلمون اهتماما شديداً كبيراً ، وأعني بالمسلمين بطبيعة الأمر
الدعاة ، ولعل الأصح أن نقول : العلماء منهم ؛لأن الدعاة اليوم – مع الأسف الشديد
– يدخل فيهم كل مسلم ولو كان على فقر مدقع من العلم ، فصاروا يعدون أنفسهم دعاة
إلى الإسلام ، وإذا تذكرنا تلك القاعدة المعروفة – لا أقول : عند العلماء فقط بل
عند العقلاء جميعاً – تلك القاعدة التي تقول : "فاقد الشيء لا يعطيه " /
فإننا نعلم اليوم بأن هناك طائفة كبيرة جداً يعدون بالملايين من المسلمين تنصرف
الأنظار إليهم حين يطلق لفظة : الدعاة . وأعني بهم :جماعة الدعوة ، أو : جماعة
التبليغ " ومع ذلك فأكثرهم كما قال الله عز وجل : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
}(لأعراف: من الآية187) .
ومعلوم من طريقة
دعوتهم أنهم قد أعرضوا بالكلية عن الاهتمام بالأصل الأول – أو بالأمر الأهم – من
الأمور التي ذكرت آنفاً ، وأعني : العقيدة والعبادة والسلوك ، وأعرضوا عن الإصلاح
الذي بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم بل بدأ به كل الأنبياء ، وقد بينه الله
تعالى بقوله :ل{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }(النحل: من الآية36) . فهم لا يعنون بهذا
الأصل الأصيل والركن الأول من أركان الإسلام – كما هو معلوم لدى المسلمين جميعاً –
هذا الأصل الذي قام يدعو إليه أول رسول من
الرسل الكرام ألا وهو نوح صلى الله عليه وسلم قرابة ألف سنة ، والجميع يعلم أن
الشرائع السابقة لم يكن فيها من التفصيل لأحكام العبادات والمعاملات ما هو معروف
في ديننا هذا لأنه الدين الخاتم للشرائع والأديان ، ومع ذلك فقد لبث نوح في قومه
ألف سنة إلا خمسين عاماً يصرف وقته وجل اهتمامه للدعوة إلى التوحيد ، ومع ذلك أعرض
قومه عن دعوته كما بين الله – عز وجل – ذلك في محكم التنزيل {وَقَالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً } (نوح:23) .
فهذا يدل دلالة قاطعة
على أن أهم شيء ينبغي على الدعاة إلى " الإسلام الحق" الاهتمام به
دائماً هو الدعوة إلى التوحيد وهو معنى قوله – تبارك وتعالى- :{فَاعْلَمْ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }(محمد: من
الآية19) .
هكذا كانت سنة النبي
صلى الله عليه وسلم عملاً وتعليماً .
أما فعله : فلا يحتاج إلى بحث ، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم في العهد المكي إنما كان فعله ودعوته محصورة في الغالب في دعوة
قومه إلى عبادة الله لا شريك له .
أما تعليماً : ففي حديث أنس بن مالك – رضي الله
عنه – الوارد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى
اليمن قال له : " ليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن
هم أطاعوك لذلك ....." 1 .إلخ الحديث .وهو معلوم ومشهور إن شاء
الله تعالى .
إذاً ، قد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبدؤوا بما بدأ به وهو الدعوة إلى التوحيد ، ولا شك
أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين أولئك العرب المشركين – من حيث إنهم كانوا يفهمون
ما يقال لهم بلغتهم - ، وبين أغلب العرب المسلمين اليوم الذين ليسوا بحاجة أن يدعوا
إلى أن يقولوا : لا إله إلا الله ؛ لأنهم قائلون بها على اختلاف مذاهبهم وطرائقهم
وعقائدهم ، فكلهم يقولون : لا إله إلا الله ، لكنهم في الواقع بحاجة أن يفهموا –
أكثر – معنى هذه الكلمة الطيبة ، وهذا الفرق فرق جوهري – جداً – بين العرب الأولين
الذين كانوا إذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : لا إله إلا الله
يستكبرون ، كما هو مبين في صريح القرآن العظيم (2) لماذا يستكبرون ؟ ؛
لأنهم يفهمون أن معنى هذه الكلمة أن لا يتخذوا مع الله أنداداً وألا يعبدوا إلا
الله ، وهم كانوا يعبدون غيره ، فهم ينادون غير الله ويستغيثون بغير الله ؛ فضلاً
عن النذر لغير الله ، والتوسل بغير الله ، والذبح لغيره والتحاكم لسواه ....إلخ.
هذه الوسائل الشركية
الوثنية المعروفة التي كانوا يفعلونها ، ومع ذلك كانوا يعلمون أن من لوازم هذه
الكلمة الطيبة – لا إله إلا الله – من حيث اللغة العربية أن يتبرؤوا من كل هذه
الأمور ؛ لمنافاتها لمعنى " لا إله إلا الله ".
غالب المسلمين اليوم
لا يفقهون معنى لا إله إلا الله فهماً جيداً :
أما غالب المسلمين
اليوم الذين يشهدون بأن " لا إله إلا الله " فهم لا يفقهون معناها جيداً
، بل لعلهم يفهمون معناها فهماً معكوساً ومقلوباً تماماً ؛ أضرب لذلك مثلاً :
بعضهم (1)
ألف رسالة في معنى " لا إله إلا الله " ففسرها :" لا رب إلا الله!!
" وهذا المعنى هو الذي كان المشركون يؤمنون به وكانوا عليه ، ومع ذلك لم
ينفعهم إيمانهم هذا ، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه}(لقمان: من الآية25).
فالمشركون كانوا
يؤمنون بأن لهذا الكون خالقاً لا شريك له ،ولكنهم كانوا يجعلون مع الله أنداداً
وشركاء في عبادته ، فهم يؤمنون بأن الرب واحد ولكن يعتقدون بأن المعبودات كثيرة ،
ولذلك رد الله تعالى – هذا الاعتقاد – الذي سماه عبادة لغيره من دونه بقوله تعالى
:{....وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى....}(الزمر: من الآية3).
لقد كان المشركون
يعلمون أن قول : " لا إله إلا الله " يلزم له التبرؤ من عبادة ما دون
الله عز وجل ، أما غالب المسلمين اليوم ؛ فقد فسروا هذه الكلمة الطيبة " لا
إله إلا الله " بـ : " لا رب إلا الله !! " فإذا قال المسلم : لا
إله إلا الله " ، وعبد مع الله غيره ؛ فهو المشركون سواء ، عقيدة ، وإن كان
ظاهره الإسلام ؛ لأنه يقول لفظة :لا إله إلا الله فهو بهذه العبارة مسلم لفظياً
ظاهراً ، وهذا مما يوجب علينا جميعاً – بصفتنا دعاة إلى الإسلام- الدعوة إلى
التوحيد وإقامة الحجة على من جهل معنى" لا إله إلا الله " وهو واقع في خلافها
؛ بخلاف المشرك ؛ لأنه يأبى أن يقول :" لا إله إلا الله " فهو ليس
مسلماً لا ظاهراً ولا باطناً فأما جماهير المسلمين اليوم هم مسلمون لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم قال :" فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها
وحسابهم على الله تعالى "(2).
لذلك ، فإني أقول كلمة
– وهي نادرة الصدور مني - ، وهي :إن واقع كثير من المسلمين اليوم شر مما كان عليه
عامة العرب في الجاهلية الأولى من حيث سوء الفهم لمعنى هذه الكلمة الطيبة ؛ لأن
المشركين العرب كانوا يفهمون ، ولكنهم لا يؤمنون ، أما غالب المسلمين اليوم ،
فإنهم يقولون ما لا يعتقدون ، يقولون : لا إله إلا الله ، ولا يؤمنون –حقاً –
بمعناها (1)،
لذلك فأنا أعتقد أن أول واجب على الدعاة المسلمين – حقاً – هو أن يدندنوا حول هذه
الكلمة وحول بيان معناها بتلخيص ، ثم
بتفصيل لوازم هذه الكلمة الطيبة بالإخلاص لله عز وجل في العبادات بكل
أنواعها ، لأن الله عز وجل لما حكى عن المشركين قوله : { ... مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }(الزمر: من الآية3)، جعل كل
عبادة توجه لغير الله كفراً بالكلمة الطيبة : لا إله إلا الله ؛ لهذا ؛ أنا أقول
اليوم : لا فائدة مطلقاً من تكتيل المسلمين ومن تجميعهم ، ثم تركهم في ضلالهم دون
فهم هذه الكلمة الطيبة ، وهذا لا يفيدهم في الدنيا قبل الآخرة ! نحن نعلم قول
النبي صلى الله عليه وسلم :" من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً من
قلبه حرم الله بدنه على النار " وفي رواية أخري :" دخل الجنة "(2)
. فيمكن ضمان دخول الجنة لمن قالها مخلصاً حتى لو كان بعد لأي وعذاب يمس القائل ،
والمعتقد الاعتقاد الصحيح لهذه الكلمة ، فإنه قد يعذب بناءً على ما ارتكب واجترح
من المعاصي والآثام ، ولكن سيكون مصيره في النهاية دخول الجنة ، و على العكس من
ذلك ؛ من قال هذه الكلمة الطيبة بلسانه ، ولما يدخل الإيمان إلى قلبه ؛ فذلك لا
يفيده شيئاً في الآخرة ، قد يفيده في الدنيا النجاة من القتال ومن القتل إذا كان
للمسلمين قوة وسلطان ، وأما في الآخرة فلا يفيد شيئاً إلا إذا كان قائلاً لها وهو
فاهم معناها أولاً ، ومعتقداً لهذا المعنى ثانياً ؛ لأن الفهم وحده لا يكفي إلا
إذا اقترن مع الفهم الإيمان بهذا المفهوم ، وهذه النقطة ؛ أظن أن أكثر الناس عنها
غافلون ! وهي : لا يلزم من الفهم الإيمان بل لا بد أن يقترن كل من الأمرين مع
الآخر حتى يكون مؤمناً ، ذلك لأن كثيراً من أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا
يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول صادق فيما يدعيه من الرسالة والنبوة ،
ولكن مع هذه المعرفة التي شهد لهم بها ربنا عز وجل حين قال:{...يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ....} (البقرة: من الآية146). ومع ذلك هذه المعرفة
ما أغنت عنهم من الله شيئاً لماذا ؟ لأنهم لم يصدقوه فيما يدعيه من النبوة
والرسالة ، ولذلك فإن الإيمان تسبقه المعرفة ولا تكفي وحدها ، بل لا بد أن يقترن
مع المعرفة الإيمان والإذعان ، لأن المولى عز وجل يقول في محكم التنزيل :
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
......}(محمد: من الآية19).
وعلى هذا ، فإذا قال
المسلم : لا إله إلا الله بلسانه ؛ فعليه أن يضم إلى ذلك معرفة هذه الكلمة بإيجاز
ثم بالتفصيل ، فإذا عرف وصدق وآمن ؛ فهو الذي يصدق عليه تلك الأحاديث التي ذكرت
بعضها آنفاً ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى شيء من التفصيل الذي
ذكرته آنفاً : " من قال : لا إله إلا الله ، نفعته يوماً من دهره "(1).
أي كانت هذه الكلمة
الطيبة بعد معرفة معناها منجية له من الخلود في النار – وهذا اكرره لكي يرسخ في
الأذهان – وقد لا يكون قد قام بمقتضاها من كمال العمل الصالح والانتهاء عن المعاصي
ولكنه سلم من الشرك الأكبر وقام بما يقتضيه ويستلزمه شروط الإيمان من الأعمال
القلبية – والظاهرية حسب اجتهاد بعض أهل العلم وفيه تفصيل ليس هذا محل بسطه -(2)؛
وهو تحت المشيئة ، وقد يدخل النار جزاء ما ارتكب أو فعل من المعاصي أو أخل ببعض
الواجبات ، ثم تنجيه هذه الكلمة الطيبة أو يعف الله عنه بفضل منه وكرمه ، وهذا
معنى قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم ذكره : " من قال : لا إله إلا الله ،
نفعته يوماً من دهره "(1)، أما من قالها بلسانه ولم يفقه
معناها ، أو فقه معناها ولكنه لم يؤمن بهذا المعنى ؛ فهذا لا ينفعه قوله : لا إله
إلا الله ، إلا في العاجلة إذا كان يعيش في ظل الحكم الإسلامي وليس في الآجلة .
لذلك لا بد من التركيز
على الدعوة إلى التوحيد في كل مجتمع أو تكتل إسلامي يسعى- حقيقة وحثيثاً – إلى ما
تدندن به كل الجماعات الإسلامية أو جلها ، وهو تحقيق المجتمع الإسلامي وإقامة
الدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله على أي أرض لا تحكم بما أنزل الله ، هذه
الجماعات أو هذه الطوائف لا يمكنها أن تحقق هذه الغاية – التي أجمعوا على تحقيقها
وعلى السعي- حثيثاً إلى جعلها حقيقة واقعية – إلا بالبدء بما بدأ به الرسول صلى
الله عليه وسلم .
وجوب الاهتمام بالعقيدة لا يعنى إهمال باقي الشرع من عبادات وسلوك ومعاملات
وأخلاق :
وأعيد التنبيه بأنني
لا أعنى الكلام في بيان الأهم فالمهم وما دونه على أن يقتصر الدعاة فقط على الدعوة
إلى هذه الكلمة الطيبة وفهم معناها ، بعد أن أتم الله عز وجل علينا النعمة بإكماله
لدينه ! بل لا بد لهؤلاء الدعاة أن يحملوا الإسلام كُلاً لا يتجزأ ، وأنا حين أقول
هذا- بعد ذلك البيان الذي خلاصته : أن يهتم الدعاة الإسلاميون حقاً بأهم ما جاء به
الإسلام ، وهو تفهيم المسلمين العقيدة الصحيحة النابعة من الكلمة الطيبة "لا
إله إلا الله "، أريد أن استرعي النظر إلى هذا البيان لا يعني أن يفهم المسلم
فقط أن معنى :" لا إله إلا الله " ، هو لا معبود بحق في الوجود إلا الله
فقط ! بل هذه يستلزم أيضاً أن يفهم العبادات التي ينبغي أن يعبد ربنا- عز وجل –
بها ، ولا يوجه شيء منها لعبد من عباد الله تبارك وتعالى ، فهذا التفصيل لا بد أن
يقترن بيانه أيضاً بذلك المعنى الموجز للكلمة الطيبة ، ويحسن أن أضرب مثلاً – أو
أكثر من مثل ، حسبما يبدو لي – لأن البيان الإجمالي لا يكفي .
أقول إن
كثيراً من المسلمين الموحدين حقاً والذين لا يوجهون عبادة من العبادات إلى غير
الله عز وجل ، ذهنهم خال من كثير من الأفكار والعقائد الصحيحة التي جاء ذكرها في
الكتاب والسنة ، فكثير من هؤلاء الموحدين يمرون على كثير من الآيات وبعض الأحاديث
التي تتضمن عقيدة وهم غير منتبهين إلى ما تضمنته ، مع أنها من تمام الإيمان بالله
عز وجل ، خذوا مثلاً عقيدة الإيمان بعلو الله عز وجل ، على ما خلقه ، أنا أعرف
بالتجربة أن كثيراً من إخواننا الموحدين السلفيين يعتقدون معنا بأن الله عز وجل
على العرش استوى دون تأويل ، ودون تكييف ، ولكنهم حين يأتيهم معتزليون عصريون ،أو
جهميون عصريون ، أو ماتريدي أو أشعري ويلقي إليه شبهة قائمة على ظاهر آية لا يفهم
معناها الموسوس ولا الموسوس إليه ، فيحار في عقيدته ، ويضل عنها بعيداً ، لماذا؟
لأنه لم يتلق العقيدة الصحيحة من كل الجوانب التي تعرض لبيانها كتاب ربنا –عز وجل
– وحديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فحينما يقول المعتزلي المعاصر : الله –
عز وجل – يقول : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....} (الملك:الآيتان 15-16).
و أنتم تقولون : إن الله في السماء ، وهذا معناه أنكم جعلتم معبودكم في ظرف هو
السماء المخلوقة!! فإنه يلقى شبهة على من أمامه .
بيان عدم وضوح العقيدة الصحيحة ولوازمها في أذهان الكثيرين :
أريد من هذا المثال أن
أبين أن عقيدة التوحيد بكل لوازمها ومتطلباتها ليست واضحة – للأسف في أذهان كثير
ممن آمنوا بالعقيدة السلفية نفسها ، فضلاً عن الآخرين الذين اتبعوا العقائد
الأشعرية أو الماتريدية أو الجهمية في مثل هذه المسألة ، فأنا أرمي بهذا المثال
إلى أن المسألة ليست بهذا اليسر الذي يصوره اليوم بعض الدعاة الذين يلتقون معنا في
الدعوة إلى الكتاب والسنة إن الأمر ليس بالسهولة التي يدعيها بعضهم ، والسبب ما سبق
بيانه من الفرق بين جاهلية المشركين الأولين حينما كانوا يدعون ليقولوا : لا إله
إلا الله فيأبون ؛ لأنهم يفهمون معنى هذه الكلمة الطيبة ، وبين أكثر المسلمين
المعاصرين اليوم حينما يقولون هذه الكلمة ؛ ولكنهم لا يفهمون معناها الصحيح ، هذا
الفرق الجوهري هو الآن متحقق في مثل هذه العقيدة ، وأعني بها علو الله عز وجل على
مخلوقاته كلها ، فهذا يحتاج إلى بيان ، ولا يكفي أن يعتقد المسلم{الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5)
}. "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في
السماء "(1).دون أن يعرف أن كلمة "في " التي وردت في هذا
الحديث ليست ظرفية ، وهي مثل "في " التي وردت في قوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....}
(الملك:الآيتان 15-16). ؛ لأن " في
" هنا بمعنى " على " والدليل على ذلك كثير وكثير جداً ؛ فمن ذلك :
الحديث السابق المتداول بين ألسنة الناس ، وهو مجموع طرقه –والحمد لله – صحيح ،
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" ارحموا من في الأرض " لا يعني الحشرات
والديدان التي هي في داخل الأرض ! وإنما من على الأرض ؛ من إنسان وحيوان ، وهذا
مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم :" ...يرحمكم من في السماء " ، أي : على
السماء ، فمثل هذا التفصيل لا بد للمستجيبين لدعوة الحق أن يكونوا على بينة منه ،
ويقرب هذا : حديث الجارية وهي راعية غنم ، وهو مشهور معروف ، وإنما أذكر الشاهد
منه ؛ حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أين الله ؟" قالت له
: في السماء"(1) . لو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر – مثلاً – أين الله
؟ لقالوا لك : في كل مكان ! بينما الجارية أجابت بأنه في السماء ، وأقرها النبي
صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ ؛ لأنها أجابت على الفطرة ، وكانت تعيش بما يمكن أن
نسميه بتعبيرنا العصري ( بيئة سلفية) لم تتلوث بأي بيئة سيئة – بالتعبير العام -؛
لأنها تخرجت كما يقولون اليوم – من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم – هذه المدرسة
لم تكن خاصة ببعض الرجال ولا ببعض النساء ، وإنما كانت مشاعة بين الناس وتضم
الرجال والنساء وتعم المجتمع بأكمله ، ولذلك عرفت راعية الغنم العقيدة لأنها لم
تتلوث بأي بيئة سيئة ؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة وهو مالم
يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة ، فلا يعرف أين ربه! مع أنه مذكور في
الكتاب والسنة ، واليوم أقول : لا يوجد شيء من هذا البيان وهذا الوضوح بين
المسلمين بحيث لو سألت –لا أقول : راعية غنم – بل راعي أمة أو جماعة ؛ فإنه قد
يحار في الجواب كما يحار الكثيرون اليوم إلا من رحم الله وقليل ما هم !!!
الدعوة إلى العقيدة الصحيحة تحتاج إلى بذل جهد عظيم ومستمر : ( فتأمل بارك
الله فيك )
فإذاً ، فالدعوة إلى
التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس تقتضي منا ألا نمر بالآيات دون تفصيل كما في العهد
الأول ؛ لأنهم – أولاً – كانوا يفهمون العبارات العربية بيسر ، وثانياً لأنه لم
يكن هناك انحراف وزيغ في العقيدة نبع من الفلسفة وعلم الكلام ، فقام ما يعارض
العقيدة السليمة ، فأوضاعنا اليوم تختلف تماماً عما كان عليه المسلمون الأوائل ، فلا
يجوز أن نتوهم بأن الدعوة إلى العقيدة الصحيحة هي اليوم من اليسر كما كان الحال في
العهد الأول ، وأقرب هذا في مثل لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان – إن شاء
الله تعالى- :
من اليسر المعروف
حينئذ أن الصحابي يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ثم التابعي
يسمع الحديث من الصحابي مباشرة ... وهكذا
نقف عند القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية ، ونسأل : هل كان هناك شيء اسمه علم
الحديث ؟ الجواب : لا ، وهل كان هناك شيء اسمه علم الجرح والتعديل ؟ الجواب : لا ،
أما الآن فهذان العلمان لا بد منهما لطالب العلم ، وهما من فروض الكفاية ؛ وذلك
لكي يتمكن العالم اليوم من معرفة الحديث إن كان صحيحاً أو ضعيفاً ، فالأمر لم يعد
ميسراً سهلاً كما كان ذلك ميسراً للصحابي ، لأن الصحابي كان يتلقى الحديث من
الصحابة الذين زكوا بشهادة الله – عز وجل – لهم ....إلخ . فما كان يومئذ ميسوراً
ليس ميسوراً اليوم من حيث صفاء العلم وثقة مصادر التلقي ، لهذا لا بد من ملاحظة
هذا الأمر والاهتمام به كما ينبغي مما يتناسب مع المشاكل المحيطة بنا اليوم بصفتنا
مسلمين ، والتي لم تحط بالمسلمين الأولين من حيث التلوث العقدي الذي سبب إشكالات
وأوجد شبهات من أهل البدع المنحرفين عن العقيدة الصحيحة منهج الحق تحت مسميات
كثيرة ، ومنها الدعوة إلى الكتاب والسنة فقط ! كما يزعم ذلك ويدعيه المنتسبون إلى
علم الكلام .
ويحسن بنا هنا أن نذكر
بعض ما جاء في الأحاديث الصحيحة في ذلك ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
ذكر الغرباء في بعض تلك الأحاديث ، قال :" للواحد منهم خمسون من الأجر "
، قالوا : منا يا رسول الله أو منهم ؟ قال : " منكم".
وهذا من نتائج الغربة
الشديدة للإسلام اليوم التي لم تكن في الزمن الأول ، ولا شك أن غربة الزمن الأول
كانت بين شرك صريح وتوحيد خال من كل شائبة ، بين كفر بواح وإيمان صادق ، أما الآن
فالمشكلة بين المسلمين أنفسهم فأكثرهم توحيده مليء بالشوائب ، ويوجه العبادات إلى
غير الله ويدعي الإيمان ؛ هذه القضية ينبغي الانتباه لها أولاً ،و ثانياً : لا
ينبغي أن يقول بعض الناس : إننا لا بد لنا من الانتقال إلى مرحلة أخرى غير مرحلة
التوحيد وهي العمل السياسي !! لأن الإسلام دعوته دعوة حق أولاً ، فلا ينبغي أن
نقول : نحن عرب والقرآن نزل بلغتنا ، مع تذكيرنا أن العرب اليوم عكس الأعاجم الذين
استعربوا ، بسبب بعدهم عن لغتهم ، وهذا ما أبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم ، فهب
أننا – نحن العرب – قد فهمنا الإسلام فهماً صحيحاً ، فليس من الواجب علينا بأن
نعمل عملاً سياسياً ، ونحرك الناس تحريكاً سياسياً ، ونشغلهم بالسياسة عما يجب
عليهم الاشتغال به ، في فهم الإسلام : في العقيدة ، والعبادة ، والمعاملة والسلوك
!! فأنا لا أعتقد أن هناك شعباً يعد بالملايين قد فهم الإسلام فهماً صحيحاً –أعني
: العقيدة ، والعبادة ، والسلوك –وربي عليها.
أساس التغيير هو منهج التصفية والتربية :
ولذلك نحن ندندن أبداً
ونركز دائماً حول النقطتين الأساسيتين اللتين هما قاعدة التغيير الحق ، وهما :
التصفية والتربية ، فلا بد من الأمرين معاً ؛ التصفية والتربية ، فإن كان هناك نوع
من التصفية في بلد فهو في العقيدة ، وهذا – بحد ذاته – يعتبر عملاً كبيراً وعظيماً
أن يحدث في جزء من المجتمع الإسلامي الكبير- أعني : شعباً من الشعوب - ، أما
العبادة فتحتاج إلى أن تتخلص من المذهبية الضيقة ، والعمل على الرجوع إلى السنة
الصحيحة ، فقد يكون هناك علماء أجلاء فهموا الإسلام فهماً صحيحاً من كل الجوانب ،
لكني لا أعتقد أن فرداً أو اثنين ، أو ثلاثة ، أو عشرة ، أو عشرين يمكنهم أن
يقوموا بواجب التصفية ، تصفية الإسلام من كل ما دخل فيه ؛ سواء في العقيدة ، أو
العبادة ، أو السلوك ، إنه لا يستطيع أن ينهض بهذا الواجب أفراد قليلون يقومون
بتصفية ما علق به من كل دخيل ويربوا من حولهم تربية صحيحة سليمة ، فالتصفية
والتربية الآن مفقودتان .
ولذلك سيكون للتحرك
السياسي في أي مجتمع إسلامي لا يحكم بالشرع آثار سيئة قبل تحقيق هاتين القضيتين
الهامتين ، أما النصيحة فهي تحل محل التحرك السياسي في أي بلد يحكم بالشرع من خلال
المشورة أو من خلال إبدائها بالتي هي أحسن بالضوابط الشرعية بعيداً عن لغة الإلزام
أو التشهير ، فالبلاغ يقيم الحجة ويبرئ الذمة .
ومن النصح أيضاً ، أن
نشغل الناس فيما ينفعهم ؛بتصحيح العقيدة ، والعبادة ،و السلوك ، والمعاملات .
وقد يظن بعضهم أننا
نريد تحقيق التربية والتصفية في المجتمع الإسلامي كل! هذا ما لا نفكر فيه ولا نحلم
به في المنام ؛ لأن هذا تحقيقه مستحيل ؛ ولأن الله عز وجل يقول في القرأن الكريم
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ}(هود:118).
وهؤلاء لا يتحقق فيهم قول ربنا تعالى هذا إلا
إذا فهموا الإسلام فهماً صحيحاً وربوا أنقسهم وأهليهم ومن كان حولهم على هذا
الإسلام الصحيح .
من يشتغل بالعمل السياسي
؟ ومتى ؟
فالاشتغال الآن بالعمل
السياسي مشغلة ! مع أننا لا ننكره ، إلا أننا نؤمن بالتسلسل الشرعي المنطقي في آن
واحد ، نبدأ بالعقيدة ، ونثني بالعبادة ثم بالسلوك ؛ تصحيحاً وتربية ثم لا بد أن
يأتي يوم ندخل فيه في مرحلة السياسة بمفهومها الشرعي ؛ لأن السياسة معناه : إدارة
شؤون الأمة ، من الذي يدير شؤون الأمة ؟ ليس زيداً ، وبكراً ، وعمراً ؛ممن يؤسس
حزباً أو يترأس حركة ، أو يوجه جماعة !! هذا الأمر خاص بولي الأمر ؛ الذي يبايع من قبل المسلمين ،
هذا هو الذي يجب عليه معرفة سياسة الواقع وإدارته ، فإذا كان المسلمون غير متحدين
– كحالنا اليوم – فيتولى ذلك كل ولي أمر حسب حدود سلطاته ، أما أن نشغل أنفسنا في
أمور لو افترضنا أننا عرفناها حق المعرفة فلا تنفعنا معرفتنا هذه ؛ لأننا لا نتمكن
من إدارتها ، ولأننا لا نملك القرار لإدارة الأمة ، وهذا وحده عبث لا طائل تحته ،
ولنضرب مثلاً الحروب القائمة ضد المسلمين في كثير من بلاد الإسلام هل يفيد أ ن
نشعل حماسة المسلمين تجاهها ونحن لا نملك الجهاد الواجب إدارته من إمام مسؤول عقدت
له البيعة ؟! لا فائدة من هذا العمل ، ولا نقول : إنه ليس بواجب ! ولكننا نقول :
إنه أمر سابق لأوانه ، ولذلك فعلينا أن نشغل أنفسنا وأن نشغل غيرنا ممن ندعوهم إلى
دعوتنا ؛ بتفهيمهم الإسلام الصحيح ، وتربيتهم تربية صحيحة، أما أن نشغلهم بأمور
حماسية وعاطفية ، فذلك مما سيصرفهم عن التمكن في فهم الدعوة التي يجب أن يقوم بها
كل مكلف من المسلمين ؛ كتصحيح العقيدة ،وتصحيح العبادة ، وتصحيح السلوك ، وهي من
الفروض العينية التي لا يعذر المقصر فيها ،و أما الأمور الأخرى فبعضها يكون من
الأمور الكفائية ، كمثل ما يسمى اليوم بـ (فقه الواقع ) والاشتغال بالعمل السياسي
الذي هو من مسئولية من لهم الحل والعقد ، الذين بإمكانهم أن يستفيدوا من ذلك
عملياً ، أما أن يعرفه بعض الأفراد الذين ليس بأيديهم حل ولا عقد ويشغلوا جمهور
الناس بالمهم عن الأهم ، فذلك مما صرفهم عن المعرفة الصحيحة ! وهذا مما نلمسه لمس
اليد في كثير من مناهج الأحزاب والجماعات الإسلامية اليوم ، حيث نعرف أن بعضهم
انصرف عن تعليم الشباب المسلم المتكتل والملتف حول هؤلاء الدعاة من أجل أن يتعلم
ويفهم العقيدة الصحيحة ، والعبادة الصحيحة ، والسلوك الصحيح ، وإذا ببعض هؤلاء
الدعاة ينشغلون بالعمل السياسي ومحاولة الدخول في البرلمانات التي تحكم بغير ما
أنزل الله ! فصرفهم هذا عن الأهم واشتغلوا بما ليس مهما ً في هذه الظروف القائمة
الآن .
أما ما جاء في السؤال
عن كيفية براءة ذمة المسلم أو مساهمته في تغيير هذا الواقع الأليم ؛ فنقول : كل من
المسلمين بحسبه ، العالم منهم يجب عليه ما لا يجب على غير العالم ، وكما أذكر في
مثل هذه المناسبة : أن الله عز وجل قد أكمل النعمة بكتابه ، وجعله دستوراً
للمؤمنين به ، من ذلك أن الله تعالى قال :{ ... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(الانبياء: من الآية7)
فالله سبحانه وتعالى قد جعل المجتمع الإسلامي قسمين : عالماً ، وغير عالم ،
وأوجب على كل منهما مالم يوجبه على الآخر ، فعلى الذين ليسوا بعلماء أن يسألوا أهل
العلم ، وعلى العلماء أن يجيبوهم عما سئلوا عنه ، فالواجبات – من هذا المنطلق –
تختلف باختلاف الأشخاص ، فالعالم اليوم عليه أن يدعوا إلى دعوة الحق في حدود
الاستطاعة ، وغير العالم عليه أن يسأل عما يهمه بحق نفسه أو من كان راعياً ؛ كزوجة
أو ولد أو نحوه ، فإذا قام المسلم –من كلا الفريقين – بما يستطيع ؛ فقد نجا ، لأن
الله عز وجل يقول : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا }(البقرة: من
الآية286) .
نحن – مع الأسف نعيش
في مأساة ألمت بالمسلمين ، لا يعرف التاريخ لها مثيلاً ، وهو تداعي الكفار على
المسلمين ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل حديثه المعروف والصحيح
:" تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا : أمن قلة
نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : "لا ، أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء
السيل ، ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم لكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن" ،
قالوا: وما الوهن يارسول الله ؟ قال : "حب الدنيا وكراهية الموت".
فواجب العلماء إذاً ،
أن يجاهدوا في التصفية والتربية ، وذلك بتعليم المسلمين التوحيد الصحيح وتصحيح
العقائد والعبادات ، والسلوك ، كل حسب طاقته وفي البلاد التي يعيش فيها ، لأنهم لا
يستطيعون القيام بجهاد اليهود في صف واحد ماداموا كحالنا اليوم ، متفرقين ، لا
يجمعهم بلد واحد ولا صف واحد ، فإنهم لا يستطيعون القيام بمثل هذا الجهاد لصد
الأعداء الذين تداعوا عليهم ، ولكن عليهم أن يتخذوا كل وسيلة شرعية بإمكانهم أن
يتخذوها ، لأننا لا نملك القدرة المادية ، ولو استطعنا ، فإننا لا نستطيع أن نتحرك
فعلاً ، لأن هناك حكومات وقيادات وحكاماً في كثير من بلاد المسلمين يتبنون سياسات
لا تتفق مع السياسة الشرعية – مع الأسف الشديد – لكننا نستطيع أن نحقق – بإذن الله
تعالى _ هذين الأمرين العظيمين اللذين ذكرتهما آنفاً وهما التصفية والتربية ،
وحينما يقوم الدعاة المسلمون بهذا الواجب المهم جداً في بلد لا يتبنى سياسة لا
تتفق مع السياسة الشرعية ، ويجتمعون على هذا الأساس ، فأنا أعتقد – يومئذ- أنه
سيصدق عليهم قول الله عز وجل :{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ
اللَّه)(الروم: من الآية4-5) .
الواجب على كل مسلم أن
يطبق حكم الله في شئون حياته كلها فيما يستطيعه :
إذاً ، واجب كل مسلم
أن يعمل ما باستطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وليس هناك تلازم بين
إقامة التوحيد الصحيح والعبادة الصحيحة ، وبين إقامة الدولة الإسلامية في البلاد
التي لا تحكم بما أنزل الله ، لأن أول ما يحكم بما أنزل الله –فيه- هو إقامة
التوحيد ، وهناك – بلا شك – أمور خاصة وقعت في بعض العصور وهي أن تكون العزلة
خيراً من المخالطة ، فيعتزل المسلم في شعب من الشعاب ويعبد ربه ، ويكف من شر الناس
إليه ، وشره إليهم ، هذا الأمر قد جاءت فيه أحاديث جداً وإن كان الأصل كما جاء في
حديث ابن عمر –رضي الله عنه -:"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير
من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ". فالدولة المسلمة – بلا
شك – وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض ، وليست غاية بحد ذاتها .
ومن عجائب بعض الدعاة
أنهم يهتمون بما لا يستطيعون القيام به من الأمور ، ويدعون ما هو واجب عليهم
وميسور !وذلك بمجاهدة أنفسهم كما قال ذلك الداعية المسلم؛ الذي أوصى أتباعه
بقوله:" أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم لكم في أرضكم"
ومع ذلك فنحن نجد
كثيراً من أتباعه يخالفون ذلك ، جاعلين جل دعوتهم إلى إفراد الله عزوجل بالحكم ،
ويعبرون عن ذلك بالعبارة المعروفة : " الحاكمية لله ". ولا شك بأن الحكم
لله وحده ولا شريك له في ذلك ولا في غيره ، ولكنهم ؛ منهم من يقلد مذهباً من
المذاهب الأربعة ، ثم يقول – عندما تأتيه السنة الصريحة الصحيحة -: هذا خلاف مذهبي
!فأين الحكم بما أنزل الله في اتباع السنة؟!.
ومنهم من تجده يعبد
الله على الطرق الصوفية ! فأين الحكم بما أنزل الله بالتوحيد ؟!فهم يطالبون غيرهم
بما لا يطالبون به أنفسهم ، إن من السهل جداً أن تطبق الحكم بما أنزل الله في
عقيدتك ، في عبادتك ، في سلوكك ، في دارك ، في تربية أبنائك ، في بيعك ، في شرائك
، بينما من الصعب جداً ، أن تجبر أو تزيل ذلك الحاكم الذي يحكم في كثير من أحكامه
بغير ما أنزل الله ، فلماذا تترك الميسر إلى المعسر؟! .
هذا يدل على أحد شيئين
: إما أن يكون هناك سوء تربية ، وسوء توجيه . وإما أن يكون هناك سوء عقيدة تدفعهم
وتصرفهم إلى الاهتمام بما لا يستطيعون تحقيقه عن الاهتمام بما هو داخل في
استطاعتهم ، فأما اليوم فلا أرى إلا الاشتغال كل الاشتغال بالتصفية والتربية ودعوة
الناس إلى صحيح العقيدة والعبادة ، كل في حدود استطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا
وسعها ، والحمد لله رب العالمين .
فإذاً ركيزة السعادة وأساسها الذي عليه تُبنى هو الإيمان
بالله وبرسوله صلوات الله وسلامه عليه والقيام بما يقتضيه الإيمان .
وأسال الله الكريم ربّ العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته
العلا أن يكتب لنا جميعاً حياة السعداء ، وأن يصلح لنا جميعاً ديننا الذي هو عصمة أمرنا
، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ،
وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر . اللهم إنا نسألك موجبات
رحمتك وعزائم مغفرتك ، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك قلباً سليماً ولساناً
صادقاً ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شرِّ ما تعلم ، ونستغفرك
مما تعلم ؛ إنك أنت علام الغيوب . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجلَّه أوله وآخره
سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه وآله وسلم .
[4] ـ من كتاب فضل علم السلف على الخلف لابن رجب ، ص
67 وما بعدها
[6] ـ وهو المعروف بتوحيد الالهية
[7] ـ اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة
والجهمية ابن القيم : ج 1 / ص 21
[8] ـ التوحيد أولاً يا دعــاة الإسلام للعلامة محدث
الشام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى
(2) يشير
إلى قوله تعالى في سورة الصافات:{ )إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا
لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات:35-36)
(2) حديث
صحيح : رواه البخاري (25) وفي غير موضع ، ومسلم (22) ، وغيرهم ، من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما .
(1) حديث
صحيح : صححه لألباني في السلسلة الصحيحة (1932)وعزاه لأبي سعيد الأعرابي في معجمه
وأبي نعيم في الحلية (5/46)، والطبراني في الأوسط (6533)، وهو من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه .
(1) حديث صحيح : رواه مسلم
(537) ، وأبو داود (930) ،والنسائي
(1/14-18)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه .